ما ورد من أحاديث عن التوبة يكشف لنا أنها طريقة تطهير المسلم مما يقع فيه من ذنوب ومعاص.
فالتوبة تعني اعتراف العبد بين يديّ ربه بجهله وضعفه وندمه على ما فرّط في جنب الله، بارتكاب ما نهى عنه أو بالتقصير فيما افترضه عليه.
وهي مرحلة راقية يتسامى فيها الإنسان عمّا علق به من آثار الذنوب والأعمال، منطلقًا بجناحي الرجاء والخوف إلى ربّه يسأله المغفرة والثبات، ساكبًا بين يديه دموع الحسرة على ما قدّم، عازمًا ردّ الحقوق إلى أصحابها، وعدم العودة إلى ما تاب عنه.
وما جاء من أحاديث عن التوبة يبشر التائبين أنّه لا كبيرة مع التوبة والاستغفار، فحيثما أدرك العبد جريمته في حق نفسه، وانفطر قلبه على معصيته لربّه فتحت له أبواب الرحمة فضلًا ومنة من الله عزوجل.
العناوين الرئيسية
أحاديث عن التوبة
أمر من النبي صلى الله عليه وسلّم
ولمّا كانت التوبة نجاة للعبد، وخلاصًا له في الدنيا والآخرة حض النبي صلى الله عليه وسلّم عليها في مجموعة أحاديث عن التوبة ، وقدّم من نفسه القدوة والمثل فقال فيما رواه الأغر بن يسار رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “يا أيها الناس، توبوا إلى الله واستغفروه، فإني أتوب إلى الله وأستغفره في كل يوم مائة مرة”.
حقيقة التوبة
وقد بين لنا ما روي من أحاديث عن التوبة حقيقتها والمقصود منها فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “الندم توبة”.
وعن عائشة – رضي الله عنها – قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: “يا عائشة إن كنت ألممت بذنب, فاستغفري الله، فإن التوبة من الذنب: الندم والاستغفار” (وفي رواية): من تاب إلى الله قبل أن يغرغر، قبل الله منه “.
وقت التوبة
من رحمته سبحانه أنّه لم يجعل للتوبة وقتًا محددًا ثم يغلق بابها، فلم يشترط أن يتوب العبد عقب الذنب مباشرة وإلا لم يغفر له، وإنما يبسط الله عزوجل يديه آناء الليل وأطراف النهار داعيًا عباده إلى التوبة.
فعَنْ أَبِى مُوسَى عَنِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِىءُ النَّهَارِ وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِىءُ اللَّيْلِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا».
صحيح مسلم.
وكذلك يقبل الله التوبة عن المذنبين طالما لم يدهمهم الموت، وأدركتهم فسحة الحياة.
فعَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « إِنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ تَوْبَةَ الْعَبْدِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ». مسند أحمد.
وهكذا يبقى باب التوبة إليه سبحانه مفتوحًا كل ساعة وكل لحظة طالما أنفاس العبد تتردد بين جنبيه، ولا يغلق بابها إلا بفناء الحياة وقيام الساعة.
فعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «مَنْ تَابَ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ».
صحيح مسلم.
شروط التوبة
وللتوبة شروط كما ورد في أحاديث عن التوبة المتعلقة بحقوق العباد.
فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من كانت عنده مظلمة لأخيه من عرض أو مال فليتحلله منه اليوم قبل أن يأتي يوم لا يكون هناك دينار ولا درهم, إن كان له عمل صال أخذ من حسناته بقدر مظلمته, وإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات أخيه فطرحت عليه.
الذنوب التي تقبل التوبة عنها
أجمع العلماء أن الله يقبل التوبة عن الكبائر والصغائر متى تجنّب العبد الشرك.
فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كان فيمن كان قبلكم رجل قتل تسعة وتسعين نفساً، فسأل عن أعلم أهل الأرض فدُلّ على راهب فأتاه فقال: إنه قتل تسعة وتسعين نفساً فهل له من توبة؟ فقال: لا، فقتله فكمل به مائة، ثم سأل عن أعلم أهل الأرض فدَلّ على رجل عالم فقال: إنه قتل مائة نفس فهل له من توبة؟ فقال: نعم، ومن يحول بينه وبين التوبة، انطلق إلى أرض كذا وكذا، فإن بها أناساً يعبدون الله فاعبد الله معهم ولا ترجع إلى أرضك، فإنها أرض سوء.
فانطلق حتى إذا نصف الطريق أتاه الموت، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فقالت ملائكة الرحمة: جاء تائباً مقبلاً بقلبه إلى الله، وقالت ملائكة العذاب: إنه لم يعمل خيراً قط، فأتاهم ملك الموت في صورة آدمي، فجعلوه بينهم فقال: قيسوا ما بين الأرضين، فإلى أيتهما كان أدنى فهو له، فقاسوه فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد، فقبضته ملائكة الرحمة)).
أقوال العلماء
قال ابن حجر: “وفيه مشروعية التوبة من جميع الكبائر حتى من قتل الأنفس، ويحمل على أن الله إذا قبل توبة القاتل تكفل برضا خصمه”.
وقال عياض: وفيه أن التوبة تنفع من القتل كما تنفع من سائر الذنوب وهو وإن كان شرعاً لمن قبلنا وفي الاحتجاج به خلاف، لكن ليس هذا من موضع الخلاف، لأن موضع الخلاف إذا لم يرد في شرعنا تقريره وموافقته، أما إذا ورد فهو شرع لنا بلا خلاف”.
وعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ أَنَّ امْرَأَةً مِنْ جُهَيْنَةَ أَتَتْ نَبِىَّ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَهِىَ حُبْلَى مِنَ الزِّنَى فَقَالَتْ يَا نَبِىَّ اللَّهِ أَصَبْتُ حَدًّا فَأَقِمْهُ عَلَىَّ فَدَعَا نَبِىُّ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَلِيَّهَا فَقَالَ « أَحْسِنْ إِلَيْهَا فَإِذَا وَضَعَتْ فَائْتِنِى بِهَا ».
فَفَعَلَ فَأَمَرَ بِهَا نَبِىُّ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَشُكَّتْ عَلَيْهَا ثِيَابُهَا ثُمَّ أَمَرَ بِهَا فَرُجِمَتْ ثُمَّ صَلَّى عَلَيْهَا فَقَالَ لَهُ عُمَرُ تُصَلِّى عَلَيْهَا يَا نَبِىَّ اللَّهِ وَقَدْ زَنَتْ فَقَالَ « لَقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً لَوْ قُسِمَتْ بَيْنَ سَبْعِينَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَوَسِعَتْهُمْ وَهَلْ وَجَدْتَ تَوْبَةً أَفْضَلَ مِنْ أَنْ جَادَتْ بِنَفْسِهَا لِلَّهِ تَعَالَى ».
صحيح مسلم
فرحة الله بتوبة عبده
والله عزوجل الذي شرع لنا التوبة يحب أن يرجع إليه العبد فيستغفره، ويقرّ بين يديه بخطيئته.
فقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْعَبْدَ الْمُؤْمِنَ الْمُفَتَّنَ التَّوَّابَ ». مسند أحمد.
وعَنِ الْحَارِثِ بْنِ سُوَيْدٍ قَالَ دَخَلْتُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ أَعُودُهُ وَهُوَ مَرِيضٌ فَحَدَّثَنَا بِحَدِيثَيْنِ حَدِيثًا عَنْ نَفْسِهِ وَحَدِيثًا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ « لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ مِنْ رَجُلٍ فِى أَرْضٍ دَوِيَّةٍ مَهْلَكَةٍ مَعَهُ رَاحِلَتُهُ عَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ فَنَامَ فَاسْتَيْقَظَ وَقَدْ ذَهَبَتْ فَطَلَبَهَا حَتَّى أَدْرَكَهُ الْعَطَشُ ثُمَّ قَالَ أَرْجِعُ إِلَى مَكَانِى الَّذِى كُنْتُ فِيهِ فَأَنَامُ حَتَّى أَمُوتَ.
فَوَضَعَ رَأْسَهُ عَلَى سَاعِدِهِ لِيَمُوتَ فَاسْتَيْقَظَ وَعِنْدَهُ رَاحِلَتُهُ وَعَلَيْهَا زَادُهُ وَطَعَامُهُ وَشَرَابُهُ فَاللَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ الْعَبْدِ الْمُؤْمِنِ مِنْ هَذَا بِرَاحِلَتِهِ وَزَادِهِ ».
صحيح مسلم
لماذا التوبة؟
التوبة وسيلة لتطهير القلب مما يظلمه من آثار الذنوب والمعاصي حتى لا يصبح قلبًا مظلمًا لا يعرف الخير والحق ويبتعد خطوة بعد خطوة عن الإيمان.
فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن العبد إذا أخطأ نكتت في قلبه نكتة سوداء، فإذا هو نزع واستغفر وتاب صُقِل قلبه، وإن عاد زيد فيه، حتى تعلو قلبه، وهو الرانالذي ذكر الله:{كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ}[المطففين:14])).