ظهرت عبقرية خالد بن الوليد في معركة اليرموك كتتويج لسيرته العسكرية الفذة فيما سبقها من معارك ناجحة استطاع بحنكة وبصيرة ودراية حربية أن يجلب فيها النصر لجيشه أو يجنّبه الخسارة.
ومعركة اليرموك هي إحدى المعارك الكبرى في تاريخ الإسلام وقد وقعت في نهاية خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه وبداية خلافة الفاروق عمر بن الخطاب في العام الثالث عشر من الهجرة.
العناوين الرئيسية
موقع المعركة
وادي اليرموك هو الوادي الذي يحيط بالنهر الذي يحمل نفس الاسم، وينبع من جبال حوران متخذًا مساره قرب الحدود بين سوريا وفلسطين، منحدرًا جنوباً ليصب في غور الأردن ثم في البحر الميت، وينتهي مصبه في جنوب الحولة.
يقع وادي اليرموك تحديدًا قبل أن يلتقي نهر اليرموك بنهر الأردن بمسافة تتراوح بين ثلاثين وأربعين كيلومتراً، حيث يظهر الوادي المتسع محاطًا من الجهات الثلاث بجبال مرتفعة.
تكليف خالد بن الوليد بالذهاب إلى اليرموك
كان خالد بن الوليد قائدًا لجيش قوامه عشرة آلاف مقاتل كلّفه الخليفة الأول أبي بكر الصديق بحماية حدود الدولة الإسلامية جنوب العراق، وقد نجح خالد في التقدم في جنوب العراق وتَمكَّن من فتح مدينة الحيرة.
وكمّا استطاع أن يكون بجيشه نقطة دعم لبقية الجيوش الإسلامية المنتشرة في هذه المناطق لتقديم العون والمساعد كما فعل مع جيش عياش بن غنم عندما حوصر من جانب جيوش الغساسنة فقام بنجدته وفك حصاره.
وعندما علمت القيادة الإسلامية في المدينة المنورة أن هرقل عظيم الروم قد جمع مائتين وأربعين ألف مقاتل للهجوم على المدينة قرر تجميع بعض الجيوش الإسلامية في جيش واحد على ضفة نهر اليرموك.
وظلَّ الجيشان في حالة تحفُّز وترقُّب قرابة الشهرين؛ حتى خاف القواد المسلمون من فتور حماس الجند المسلمين ونفاد صبرهم، وقد تربَّص بهم الأعداء الذين يفوقونهم عددًا وعُدَّة، وكان الرأي هو طلب المدد من الخليفة الصديق.
وهنا قرر أبو بكر الصديق رضي الله عنه أن يحرك الماء الساكن بإرسال القائد الخبير خالد بن الوليد في نصف جيشه لينضم إلى الجيش الإسلامي الموّحد على ضفاف نهر الأردن.
حذر خالد بن الوليد
بدأ دور خالد بن الوليد في معركة اليرموك بضمان وصول جيشه كاملًا سليمًا بسرية تامة من جنوب العراق إلى أرض المعركة فعمد إلى السير في طرق غير مأهولة، ومسارات شاقة لا يتوقع أن يسلكها جيش بهذا العدد الكبير متجنبًا الطرق المألوفة التي تتركز فيها الحاميات الرومية.
ولعلم خالد بن الوليد بمشقة هذه الخطة خطب في جيشه مرغبًا في الثواب، محفزًا لهم فقال: “أيها المسلمون، لا تسمحوا للضعف أن يَدُب فيكم، ولا للوَهْن أن يُسيطر عليكم، واعلموا أن المعونة تأتي من الله على قدْرِ النيَّة، وأن الأجر والثواب على قدر المشقة، وأن المسلم ينبغي له ألا يَكترِث بشيء مهما عَظُم ما دام الله في عونه”.
عبقرية خالد بن الوليد في القيادة
عندما وصل خالد بجيشه إلى نقطة تمركز المسلمين وجد أن كل قائد يقود جيشه دون أن تكون هناك قيادة موحدة للجيش الإسلامي على عكس ما فعل الروم الذين جعلوا قيادة جيشهم الضخم في يد رجل واحد هو (تيودورك) شقيق هرقل.
فعرض خالد بن الوليد على بقية القادة أن تكون القيادة في يد كل واحد منهم يومًا من أيام المعركة على أن تكون في يده اليوم الأول منها فوافق الجميع على اقتراحه.
عبقرية خالد بن الوليد في معركة اليرموك
بعد أن تولى خالد بن الوليد القيادة في معركة اليرموك كان أول ما فكر فيه أن يعيد تقسيم هذا الجيش الكبير بحيث يبدو أكثر عددًا حتى لا يصير تفوق الروم عدديًا من الدوافع المعنوية لهم، وحتى تصبح حركة الألوية والفرق أكثر سهولة وخفة ومرونة.
وبناء على هذا الفكر والرؤية الاستراتيجية قسم الجيش إلى ستة وأربعين كردوسًا، كل كردوس يتألَّف من ألف رجل يتأمَّرهم أمير من أولي البأس، ثم قسَّم الجيش إلى قلب وميمنة وميسرة، فأما القلب فيتكوَّن من خمسة عشر كردوسًا، تحت قيادة أبي عبيدة بن الجراح، وأما الميمنة فتتألَّف من خمسة عشر كردوسًا، تحت إمرة عمرو بن العاص، ويُعاوِنه شرحبيل بن حسنة، وأما الميسرة، فتتكوَّن من عشرة كراديس بقيادة يزيد بن أبي سفيان، وأما بقية الكراديس فتكون احتياطًا في الساقة تحت قيادة عكرمة.
من ناحية أخرى كان من توفيق خالد بن الوليد في معركة اليرموك أن اختار لتمركز قواته مواقع حصينة بحيث تكون المدينة المنوَّرة خلفهم ليحتَفِظ بخطوط الإمدادات، بينما كان الروم يُرابِطون في موقع محصور بين سهل فسيح في منحنى نهر اليرموك، ومن خلفهم منخفض سحيق اسمه (واقوصة) تحيط به من ثلاث نواحٍ جبال بالغة الارتفاع مما جعلهم محصورين بين الجبال ومن أمامهم الجيش الإسلامي.
خالد بن الوليد يضع الخطة
كانت خطة خالد بن الوليد في معركة اليرموك اركز على استدراج جيش الروم إلى أعماق الجيش الإسلامي وعزل مقدمة جيش هرقل عن بقية أفرع الجيش.
لذلك سمح لهم خالد بن الوليد باقتحام خطوط المسلمين حتى وصلت إلى العمق خلف خطوط الجيش الإسلامي، ثم انقض عليهم بقوة إضافية من الجيش لم يكونوا يتوقعونها بينما عادت بقية خطوط القوات الإسلامية إلى الالتحام سريعًا فأصبحت مقدمة جيش الروم بين شقي الرحى وهجمت بقية الفرق على بقية الجيش الذي شعر بالخدعة فانهارت معنوياته فهرب من هرب وقتل من قتل حتى قدّر عدد قتلى الروم بنحو ثمانين ألف جندي.
خالد بن الوليد يتنحى عن القيادة
في أثناء المعركة قدم إلى خيمة القيادة رسول من المدينة المنورة يحمل خبر وفاة سيدنا أبي بكر الصديق خليفة رسول الله، واختيار عمر بن الخطاب أميرًا للمؤمنين والذي كان من أول قراراته عزل خالد بن الوليد عن قيادة الجيش وتكليف أبي عبيدة بن الجراح.
فما كان من سيدنا خالد بن الوليد إلا أن كتم الخبر عن الجنود وأوصى الرسول بكتمان الرسالة فلمّا انتهت المعركة وكتب النصر للمسلمين دعا خالد أبي عبيدة إلى خيمته، ودفع له بالرسالة قائلًا: : “وأما الآن، فإنك أنت أميري وقائدي، وأنا لك الجندي الأمين.. سلني أُطِعك”.
وقد كان اجتهاد سيدنا عمر بن الخطاب أن قلوب عوام المسلمين قد فتنت بانتصارات خالد من معركة لأخرى حتى صار بعضهم يعتقد أن النصر من عند خالد لا من عند الله فأراد عمر أن يعيد الإيمان إلى قلوبهم.